يقدّم هذا المقال لمحة عن الخواصّ الأساسيّة ومنشأ الإشارات الكهربائيّة التّي تَحدُث دائماً والتّي تكون غير مرغوبة إطلاقاً.يعمل الطّقس في حياتنا اليوميّة كوسيلة عالميّة لبدء المحادثات والمحافظة عليها، وفي عالم الإلكترونيّات يلعب الضّجيج دوراً مشابهاً، فهو موجودٌ دائماً، ممّا يسبّب دائماً أنواعاً مختلفة من المشاكل.
إذا بدأ الملل يسيطر على اجتماع مراجعة التّصميم ولم يغادر أحد غرفة المؤتمرات بعد، كلّ ما عليك فعله هو ذكر كلمة الضّجيج المستفزّة، فيعود النّقاش حيّاً لنصف ساعة أخرى، وإذا كانت تعمل دارتك المطبوعة PCB الجديدة بشكل جيّد جدّاً، ولكنّك لا تريد أن تبدو واثقاً بشكل مفرط عندما يأتي شخص ويسألك عنها، فقط تذمّر حول الضّجيج، وإذا انهارت دارتك المطبوعة بشكل مأساويّ ولست متأكّداً لماذا، ألق باللّوم على الضّجيج الذّي ما يكون مذنباً دائماً إلى أن يثبت براءته.
ما هو الضجيج؟
هذا السّؤال صعب الإجابة نوعاً ما إذا ما حاولت التعمّق فيه، لأنّه سينتهي بك المطاف في المجال الفلسفيّ لتواجه المسائل مثل “لماذا الحياة معقّدة هكذا؟” أو “لماذا لا تتناقص الإنتروبيا (Entropy) بين فترة وأخرى؟” ولكن إذا كنت راضٍ بإجابات أكثر سطحيّة للموضوع، فإن الضّجيج الكهربائي واضح وبسيط.
هنا محاولة لتعريف الضّجيج الكهربائيّ من منظور تصميم الدّارة: كلمة الضّجيج هي كلمة عامّة تشير للتغيّرات في الجهد أو التيّار، والتي تكون غالباً عشوائيّة، وعادة لمطال منخفض نسبيّاً، ودائماً ما تكون غير مرغوبة.
ستساعد التّعليقات التّالية على فهم التّعريف:
- الضّجيج الإلكترومغناطيسيّ واسع الانتشار، وغالباً ما يكون عاملاً هامّاً في تصميم الدّارة، ولكنّي ضيّقت التّعريف ليقتصر على الجهد والتيّار، وذلك لتجلّي تأثيرات الضّجيج الإلكترومغناطيسي في الدّارة بتغيّرات التيّار والجهد.
- غالباً ما نقول كلمة عشوائيّ لمراعاة إشارات الضّجيج الدّوريّة أو القابلة للتّنبؤ كتشويش HZ 60، ولكن يركّز هذا المقال على ظاهرة توليد الضّجيج الأساسيّة، التّي تكون عشوائيّة أو بتعبير أكثر دقّة أنّها تظهر عشوائيّة للبشر.
- يمكن أن يكون مطال إشارات الضّجيج كبيراً بالتّأكيد، ولكن في هذا السّياق سنصنّف الأحداث العابرة الكبيرة كالصّواعق وتداخل الحقل الكهرومغناطيسي EMI على أنّها تنتمي إلى مجموعة ظواهر أخرى منفصلة.
- في بعض الأوقات نولّد الضّجيج بشكل مقصود، ولكن أعتقد أنّ التّعريف المذكور يبدو منطقيّاً أكثر إذا قيّدناه ليضمّ فقط الإشارات غير المرغوبة، وفي رأيي فإنّ الضّجيج المتعمّد والمفيد يدعى “ضجيجاً” ببساطة لأنّه يشبه الضّجيج، وينتمي هذا الضّجيج بشكل أكبر إلى الإشارة، على الأقلّ إن كنت تحكم عليه وفقاً لأصله والغرض منه، حيث أن المصمّم يقوم بتوليد بالتّوافق مع احتياجات النّظام.
يمكن أن نقول الآن أنّنا نملك فكرة جيّدة عن ماهيّة الضّجيج، ممّا يعني أننا مستعدّون للغوص في الموضوع التّالي.
من أين يأتي الضّجيج؟
أسباب الضّجيج
هدفنا هنا هو البحث عن الأسباب الجذريّة، حيث يمكن للضّجيج أن يأتي من أيّ مكان: الهواء، التّغذية، منظّم الجهد الخطّي (LDO)، منظم مفتاحيّ، مقاومة.
هنا نحن نريد التعمّق أكثر وصولاً لأصول الضّجيج بحدّ ذاته بدلاً عن المكوّنات أو المسارات التّي يدخل الضجيج عبرها إلى الدّارة.
الضّجيج الحراري الذي يعرف بضجيج جونسون:
يعتبر حقيقة أساسيّة مرتبطة بمقاومة تدفّق الإلكترونات، وفي حال لم نبدأ بتصميم الدّارات من الموصلات الفائقة، سيتواجد الضّجيج الحراري دائماً، لأنّ كلّ شيء يملك على الأقلّ قليلاً من المقاومة، ويظهر هذا الضّجيج كمتغيّرات جهد عشوائيّ، ويرتبط بالحرارة والمقاومة وعرض الحزمة، وتؤدّي الحرارة المرتفعة والمقاومة المرتفعة لمطال ضجيج عالٍ، ويشير عرض الحزمة هنا إلى مجال التردّدات ذات الصّلة بالدّارة، وإذا ضمّنت المزيد من التردّدات في تحليلاتك، ستواجه المزيد من الضّجيج الحراري.
الضّجيج الطلقي Shot noise:
إنّ الإلكترونات لا تتدفّق فعليّاً عبر النّاقل، فهي نوعاً ما تقفز، حيث تتراكم الطّاقة الكامنة وبعدها تتحوّل إلى طاقة حركيّة في كلّ مرّة يتجاوز الإلكترون حاجزاً ويقفز من موضع إلى آخر، يمكن تخيّل ذلك كحركة كرة تتدحرج على سلسلة من المطبّات حيث تتغيّر السّرعة بشكل مستمرّ بتأرجح الطّاقة وتزايدها بين الطّاقة الحركيّة والطّاقة الكامنة، وتؤدّي المتغيّرات العشوائيّة في حركة الإلكترون إلى التغيّرات العشوائيّة الموافقة في التيّار، وبكلمات أخرى تؤدّي إلى حدوث الضّجيج.
يعتبر الضّجيج الطلقي بارزاً بشكل أكبر في أنصاف النّواقل منه في النّواقل، لأنّ الأولى تملك حواجزأكثر، ويؤدّي التيّار المرتفع إلى ضجيج طلقي أكبر، وكذلك الأمر بالنّسبة إلى عرض الحزمة الأكبر، ومجدّداً فإنّك عندما تضمّن تردّدات أكثر سترى ضجيجاً أكبر.
ضجيج مقلوب التردّد المعروف بالضّجيج الارتعاشيّ:
حتى الأن لا زال العلماء يحاولون فهم الضّجيج الارتعاشيّ بشكل أكبر، حيث يوجد غموض جزئيّ يحيط بهذه الظاهرة الفيزيائيّة.
خلاصة القول هي أنّ الضّجيج الارتعاشيّ يُولَّد بواسطة معظم المكوّنات الإلكترونيّة، ويتناقص مطاله بازدياد التردّد، يذكّرنا الاسم 1/f (المرتبط عكسياً بالتردّد) بأنّ العلاقة بين المطال والتردّد تعتبر خاصيّة مهمّة في هذا النّوع من الضّجيج، وكما في الضّجيج الطلقي، يؤدّي التيّار المرتفع إلى المزيد من الضّجيج الارتعاشيّ.
الضّجيج الدّفقي المعروف بضجيج الفوشار:
يحدث هذا النّوع من الضّجيج فقط في أنصاف النّواقل، ولكنّ هذا لا يساعدنا كثيراً في حصر المشكلة باعتبار أنصاف النّواقل تتواجد في كلّ مكان هذه الأيّام، ويؤدّي عدم الكمال في مادّة أنصاف النّواقل إلى انهيار الجهد، حيث تحتوي التغيّرات السّريعة على طاقة مرتفعة التردّد، ولكنّ تردّد النّبضات النّاتجة عن هذه الانتقالات منخفض نوعاً ما.
يمكنك سماع الضّجيج الدّفقي إذا ضخّمت إشارة تحتوي على هكذا ضجيج وأرسلتها لمكبّر صوت، ويبدو صوته كفرقعة الفوشار، أو على الأقلّ هذا ما قرأته، ولم أسمع قط (وحتّى لو سمعت لم أعي ما سمعته)، لهذا لا يمكنني الجزم أنّ صوته حقّاً كصوت الفوشار.
لا يعتبر الضّجيج الدّفقي مشكلة هذه الأيّام للتّحسينات التي طالت صناعة أنصاف النّواقل.
الخلاصة:
عملنا في هذا المقال على تغطية منابع الضّجيج الأكثر أهميّة في الدّارات الإلكترونيّة، وأتمنّى أنّك الآن تملك فكرة أفضل عن الظاهرة الفيزيائيّة التي تسبّب الكثير من الخوف بين مهندسي الكهرباء، فلا يمكنك الحدّ من الضّجيج، إنّما تعطيك المعلومات أعلاه بعض الأفكار عن جعله أقلّ إشكالاً، على سبيل المثال، لإنقاص الضّجيج الحراري تستطيع استخدام مقاومات أصغر أو إضافة المرشحات للحدّ من عرض الحزمة، واستخدام تقنيّات منحازة للتيّارات المنخفضة ممّا يؤدّي لضجيج طلقي وارتعاشي أقلّ.